لقد كان القرآن الكريم ولا يزال محوراً لكثير من الدراسات المتنوعة , وعلى الرغم من كثرة هذه الدراسات , وتنوع اتجاهاتها إلا أنها مازالت قاصرة وستظل عن الإحاطة ببلاغة هذا الكلام , وأسراره .
ومن المجالات التي تحتاج إلى استفراغ الجهود , وبذل المعهود واللامعهود من البحث , والدراسة قضية الفرائد القرآنية .
أعني : الأشياء التي لم تذكر في القرآن إلا مرة واحدة .
فما هي الأسرار الكامنه خلف ذلك ؟
إن ملاحظة العين للقريب , والشبيه , والنظير أمر سهل لايحتاج إلا إلى فكر قليل , ونظر بسيط , ووقت محدود , فالنفس دائماً تلحظ بسرعة وجه الشبه , وتلك فطرة فطر الله الناس عليها , ولذلك تعددت الدراسات في هذه المتشابهات , والمتناظرات , وقد أولت البلاغة العربية
لصور التشابه جل اهتمامها , بل إنك إذا نظرت إلى علم البيان , وهو ثلث علوم البلاغة
لوجدت أنه قائم على ملاحظة هذا التشابه , بداية من باب التشبيه , ثم الاستعارة , وهي في الأصل تشبيه , ثم الكناية وهي باب لا يخلوا في جوهره من مشباهة .
أقول هذا موجود بكثرة في البلاغة العربية , لكن الأعلى منه في نظري والأكثر دقةً ولطفاً أن
نحاول النظر إلى الأمور المتفردة , والتي لا مثيل لها في القرآن الكريم .
إن الوردة الحمراء وسط بستان من الورد الأبيض لابد أن تجذب الانتباه , والجمل الأورق وسط الجمال البهم ينال الحظ الأوفر من العناية والملاحظة , والمتفرد في كل شيء يستحوذ على اهتمام كل ناظر .
فمن الناس من يبعث يوم القيامة أمةً وحده .
ومن الأنبياء من يأتي يوم القيامة , ولم يؤمن به أحد .
ومن الشجر شجرة واحدة مثلها مثل المؤمن .
كل ذلك نجد فيه التفرد مسيطراً على القلوب , ومستولياً على الأفئدة .
والتفرد هنا يشمل :
1 – تفرد القصة .
2 – تفرد الصورة .
3 – تفرد الجملة .
4 – تفرد الكلمة .
وإليك بعض النماذج :
[تفرد قوم يونس ]
إن إيمان قوم يونس جميعاً بعد كفر , لم يحدث لقوم قبلهم أو بعدهم , يقول أستاذنا محمود توفيق " أعزه الله " : [ هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم , فيثوبون إلى ربهم , وفي الوقت سعة . .
وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب , فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم , قبل وقوعه بهم , كما هي سنة الله في المكذبين المصرين . ]
والبحث عن الأسرار الكامنة خلف هذا الإيمان , ومحاولة ربط ذلك بقصتهم المبثوثة في القرآن الكريم , وربط كل ذلك بتسمية سورة قرآنية باسمهم مع أنهم ذكروا فيها في آية واحدة وهي قوله تعالى : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:98)
أقول إن البحث عن هذا كله سيخلق لنا بلاغة ماتعة , لم نتعاهدها من قبل .
كذلك قصة البقرة حيث لم تذكر إلا مرة واحدة في سورة البقرة , وقصة هاروت وماروت , وفي سورة الكهف قصة الخضر عليه السلام مع سيدنا موسى .
وفي باب الشريعة نجد أحكام الديون لم تذكر إلا مرة واحدة .
وفي شأن الألفاظ نجد مثلاً كلمة ( ضيزى ) وكلمة ( أبا ً ).... وغير ذلك كثير .
[ ودراسة مثل هذا يكشف لنا- كما يقول أستاذنا - عن بعض معالم الروح المهيمن على السورة وبه يتبين الوجه البلاغي في عدم تصريف هذه المعاني والألفاظ في سور أخرى ..... وأن هناك علاقة بين هذه المعاني والألفاظ ومقصود السورة . ]
ذاك بحث أطرحه للمشمرين عسى الله تعالى أن يقيض له من يوفيه حقه , والدال على الخير كفاعله
والله من وراء القصد
دكتور / سعيد جمعة أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم في كلية اللغة العربية فرع جامعة الأزهر بشبين الكوم محافظة المنوفية